الأربعاء، 27 مارس 2024

" أزمة النقد العربي ونفاق الناقد "
 
النقد بصفة عامة ظاهرة قديمة وليست وليدة الحداثة.. والناقد هو الشخص العارف المكلف بالنظر في قيمة الشيء .. وتقييمه.. والنقد مجالاته واسعة وهو يشمل كل الأعمال الإبداعية بصفة عامة، المادية ولا مادية.. وقد يختص النقد بمجال معين دون غيره ومنها الأعمال الأدبية والعلمية وغير ذلك...
للتذكير: النقد والانتقاد هما كلمتين متدخلتين .. حيت أن النقد لا يخلو من الانتقاد ، والنقد قد يكون بناءً أو هداماً أو هما معا.. وحقيقة النقد هو فعل غير منحاز لفصيل معين بل أنه يوضح الإيجابيات و السلبيات.. بكل مصداقية وشفافية ويظهر حقيقة الشيء.. كما هي.. أما الانتقاد فهو كذلك يدرس الشيء.. مع التركيز على المساوئ التي كانت هي الباعة على هذا الانتقاد مع عدم الاغفال عن المحاسن لكن يتم في أغلب الأحوال تجاهلها وعدم ذكرها.. والانتقاد الهدام هو الانتقاص من العمل الإبداعي بشكل كلي.. وقد يكون في كثير من الأحوال ليس من باب الأمانة العلمية وتصحيح الأخطاء التي وقع فيها المبدع وتقويمها .. ولكن بسبب دافع الكراهية والحسد للمبدع بعينه أو لعمله الإبداعي أو الإنتماء إلى فصيل معين خصمه.. وهنا يفقد الإنتقاد مصداقيته العلمية ليتحول إلى قذف وطعن في العمل الإبداعي وفي صاحبه بدون مراعاة المعايير المعرفية والعلمية التي ينبغي للناقد أن يلتزم بها، والنقد والانتقاد هما من فعل الناقد العارف والعالم وهو الذي له السلطة العلمية والمعرفية متى ينقد ومتى ينتقد العمل الإبداعي الذي هو محل الدراسة والبحث والمعاينة.
والنقد قد ورد ذكره في القرآن الكريم ليس باللفظ ولكن و بالمعنى في كثير من المواضع ، وسأذكر بعض النصوص التي ورد فيها النقد للقرآن الكريم و لنبي صلى الله عليه وسلم ، في قصة الوليد بن المغيرة الذي انتقد القرآن الكريم بنقد جميل ووصف بليغ ونعته بسمو معانيه وعلوه على كل كلام وأن له حلاوة ...عندما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال هذا قول عندما كان ناقدا صادقا غير منحاز إلى فصيل معين وعندما انحاز تحول نقده إلى انتقاد أساسه الكذب وتزوير الحقيقة التي يؤمن بها وهذا يدخل في باب نفاق الناقد .  
رواه الحاكم، وغيره، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا! قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، « والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته » قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر : ( فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر ﴾ المدثر
كان نقده للقرآن الكريم عندما سمعه أول مرة بناءً يتسم بالصدق والشفافية.. ونفى نفياً قاطعاً أن يكون هذا من قول البشر أو الجن... لكن عندما انحاز إلى فصيل معين ( أبى جهل ) أي: إلى المشركين من قومه تحول من ناقد صادق إلى ناقد كاذب ومنافق .. فأصبح نقده هداما يتنافى مع الحقيقة العلمية التي يؤمن بها.. لهذا أقول إذا كان الناقد منحازا إلى طرف أو فصيل معين دون أخر.. أو حسودا ومتكبرا.. فإن نقده سيكون فاقد لشفافية والمصداقية و هداما لإبداع قاتلا للمعرفة ومزورا للحقيقة وشاهدا من شهود الزور .
ومثل النقاد العرب قياساً على الوليد ابن المغيرة في الماضي والحاضر الذين لا يخلو منهم الزمان في كل عصر ومكان قد ساهمو بشكل كبير في تعميق أزمة النقد العربي.. لأن النقد أصبح يغلب عليه طابع الكذب و النفاق المصلحي بين الناقد والمنقود سواء كان فردا أو فصيل معين... سببه المصلحة المتبادلة أو أن يتخده سببا من أسباب التقرب.. وفي جميع الحالات يفقد النقد مصداقيته.. بحيث يصبح القاريء المثقف ينظر للكتب النقدية بصفة عامة على أنها تدور في دائرة الانحياز أو العداوة والحسد.. غير مبينة للحقائق العلمية والمعرفية.. وأنها بدورها تحتاج إلى النقد والانتقاد، لهذا يجدها كثير من المثقفين أنها عقيمة عن المنفعة كأنها شجرة بلا أوراق يستظل تحتها، بلا ثمر ينتفع بها.
وقد ذكر المؤرخون أن أولا المناهج المستخدمة في النقد الأدبي.. هو منهج الانطباعي اليوناني في القرن 6 قبل الميلاد ثم من بعده في القرن 3 قبل الميلاد ظهرت المنهج الكلاسيكي أو منهج الأرسطي نسبة إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو ، وإذا كانت أروبا قبل النهضة الحديثة تعاني من قلة المناهج مما دفعها إلى تبني المنهج الكلاسيكي، فإن العرب المسلمين لم تكن لهم مشكلة قلت المناهج وخصوصاً بعد نزول الوحي وتوسع العلوم وظهور علوم جديدة كعلم التفسير والتأويل وعلم الجرح والتعديل الذي يقوم بنقد السند و المثن وما درجة قبول الرواية أو ردها وصحت الحديث أو ضعفه وكذلك علم أصول الفقه وغيره من العلوم.
وللإشارة كلمة منهج هي من الكلمات اللغة العربية الفصيحة وردت في القرآن الكريم قوله تعالى ﴿ لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا ﴾ والمنهج هو الطريق الواضح و البين الذي يسلكه السالك بغيت الوصول إلى الغاية المرجوة... وهذا يدل على أن علم المناهج يدخل ضمن دائرة العلوم الشرعية لأن العلوم الشرعية تفرض تعلم المناهج وعلم بها وكيفية استخدامها... ومعظم هذه المناهج كانت حاضرة مستخدمة في علم أصول الفقة كالمنهج اللغوي والمنهج الاستقراتي والمنهج الاستباطي، والمنهج التحليلي والمنهج المقارن والمنهج الوصفي والمنهج التاريخي وغير ذلك.. فهذه المناهج أرى أن الغرب قاموا بتسميتها بهذه الأسماء المعروفة بها الآن لأنهم وجدوا معظم هذه المناهج حاضرة في إبداعات كتب التراث العربي الإسلامي عندما قام المستشرقون بسرقة كتب التراث العربي الإسلامي و انكبوا على دراسته وتحليله.... فقاموا بتسميت هذه المناهج المستخدمة التي وجدوها في إبداعات الكتب العربية الإسلامية من قبل، ويعتبر ابن حزم الاندلسي ( 384 - 456 هجرية) من السابقين الأوائل الذي استخدم عدد من المناهج النقدية في نقد ( العهد القديم والجديد ) الذي يتصف نقده بالشمولية وأنه قام باستخدام مجموعة من المناهج للوصول إلى النتجية النقدية ألا وهي أن الثوراة والإنجيل ليسوا من وحي الله بل هما من تأليف البشر... فهذه المناهج لم تكن معروفة عند الغرب ولم يكونوا على علم بها، وهي مناهج مرتبط في ما بينها، مناهج خارجية و داخلية ، ففي كتابه النقدي المشهور « الملل والهواء والنحل » فقد قام ابن حزم باستخدام المنهج التاريخي والمنهج اللغوي والمنهج الجدلي والمنهج التحليلي والمنهج المقارن وغير ذلك من المناهج النقدية التي تنسب إلى الحداثة وما بعد الحداثة.
وهذا الأمر ليس موضوعنا بل أحببت أن أشير إليه من باب الأمانة العلمية وأن اصحح بعد الأكاذيب التي روج لها الغرب بأنهم هم السابقون لإكتشاف هذه المناهج الحديثة وأول من قام باستخدامها، لكن لم يجد من يجادلهم ويكشف الستار عن الحقيقة لأن الغرب يأخذون دائما على العرب المسلمين ثم ينسبون النتيجة إلى أنفسهم ، كما فعل الحبر اليهودي ابن عزرا (1089 - 1167 ) عندما ( نقد العهد القديم والجديد ) وتوصل إلى نفس ما قال ابن حزم لأنه اعتمد على كتابه والسب أنه ولد بالاندلس كذلك بعد ابن حزم بحوالي قرن من الزمان وبطبيعة الحال أنه قرأ ما كتب ابن حزم في نقده ( للعهد القديم والجديد ) وكذلك الفيلسوف باروخ سيبنوزا في القرن 17 ( 1623 - 1677 م) توصل إلى نفس النتيجة النقدية لإبن حزم بخصوص نقد ( العهد القديم والجديد ) بحيث كان ابن حزم هو المرجع الأساسي لأبن عزر و سيبنوزا وغيرهم.
وللإشارة أن مناهج النقدية الحديثة التي ظهرت في القرن السابع عشر لم تكون ولدة النهضة الأروبية أو الحداثة أو ما بعد الحداثة بل هذه المناهج كانت حاضرة في التراث العربي الإسلامي، هذه المناهج كانت متداولة بين علماء الأصول الفقه والحديث واللغوين وهي تشمل جميع انواع المعرفة دون تجزء لها كما أصبحت الآن مقسمة إلى عدة مناهج .. لكن لم تدعو الضرورة لتسميتها وعندما أراد ابن حزم أن ينتقد العهد القديم والجديد كانت حاضرة في ذهنه لأنه كان على علم بها ولا يكمن أن ينتقد من فراغ بدون أن يكون عالماً بهذه المناهج، بحيث استخدم كثير من هذه المناهج في المكان الذي يناسبها، لهذا الباحثون والدارسون يجد هذه المناهج حاضرة في كتابه النقدي « الفصل في الملل والأهواء والنحل » وهذا كان من أسباب تفوقه في نقد (العهد القديم والجديد ) من جميع الجوانب ولا يمكن لعالم أن ينكر هذا أو يدعي أنه لم يستخدم مناهج النقدية التي تنصب إلى الحداثة كالمنهج التاريخي والاجتماعي والمقان و الوصفي والتحليل والجدلي وغير ذلك.
والمهم ليس في نظري الاعتماد على مناهج عربية أو غربية في القراءات النقدية أو الدراسات النقدية وغير ذلك ، لأن كل هذه المناهج هدفها واحد هو تقيم العمل الإبداعي كيفما كان وفصله بين الحسن و الرديء وتصحيح الأخطاء وتوضح الرؤيا من أجل تحسين الإنتاج الأدبي والعلمي ورقي به في المستقبل.
وأقول في الختام :
إن أزمة النقد العربي ليست أزمة مناهج وبسبب تدخل المناهج العربية والغربية ، إنما أزمة النقد العربي بسبب عدم إلتزام المصداقية والشفافية عند أكثر النقاد بسب الانحياز الفكري إلى فصيل معين أو إلى الكاتب بعينه... مما ساهم في فقد النقد العربي مصداقيته العلمية والمعرفية.. ومن هنا بدأ الخلل فأصبح النقد بدون مضمون ولا معنى... وإنما النقد والناقد يحتاج دائما في كل عمل إبداعي يتناوله بالنقد أو الإنتقاد إلى منهج الصدق والعدل والشفافية.. وعدم الانحياز لأن منهج الصدق النقدي يعتبر أهم المناهج التي يمكن لناقد أن يستخدمها في دراسته للعمل الذي بين يديه.
لهذا واجب على كل ناقد أن يقول الحق في كل عمل يقوم بنقده أو انتقاده بدون نفاق و مجاملة ... ولو على نفسه إذا أخطأ في حق الكاتب... حينها يمكن لنقد أن يسترجع مكانته الحقيقة في تقيم الأعمال الإبداعية على الطريقة الصحيحة ومن تم يمكن تصنيف الأعمال الإبداعية الأدبية والعلمية... إنما في دائرة العمل الرديء أو الحسن.
وكذلك لا ينبغي لناقد أن يبالغ في تحسين ما هو قبيح من الأعمال الإبداعية وهذا الأمر أصبح جاري به العمل الآن أو تقبيح ما هو حسن ... فيجب على الناقد أن يكون دائما وأبداً منحازا إلى العلم والمعرفة فقط.
أما المناهج التي يستخدمها الناقد في نقد الأعمال الإبداعية كيفما كانت سواء كانت عربية أو غربية أو هما معا تبقى بدون فائدة لأن المناهج مجرد وسيلة تساعد النقد في ضبط عمله وإتقانه وتقيم العمل الذي بين يديه.. لتبقى المصداقية والشفافية وصدق الناقد هي المحكمة في نتيجة عمله النقدي، وفي حالة كان الناقد منحازا إلا للعلم والمعرفة غير منحاز إلى فصيل معين لأن الانحياز يفقد العمل النقدي مصداقيته وشرعيته ومكانيته العلمية والإبداعية وغير ذلك، ولنا في قصة الوليد ابن المغيرة التي سبق ذكرها عبرة يا معشر النقاد.
بقلم: الشاعر والكاتب والناقد أحمد أحبيز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-( عيد ميلادي)- في الخامس من آب بعضُ طينٍ وماءٍ صارا أنا والى أنْ يختلفا سأبقى هنا... لم تكنْ صدفة أو لقاء عبثي بين عنصرين بل تحدٍّ وامتحان ...