سرطان...
وأخيرا استرجعت المرأة الفولاذية ما فقدت من استقلالية. تلاطف وجودها وكأنها تشم رائحة إكليل الجبل الفائحة التي يحملها نسيم ليلة بداية الصيف. لقد ساد هدوء نسبي ذلك الأسبوع من شهر مايو وها هي مكالمة هاتفية في الساعة الواحدة صباحا قاطعت لحظتها الوجدانية...
بينما كانت تقف في الاستوديو الخاص بها تعمل على منحوتتها التجريدية التي تحمل عنوان "فرعون". إذ تبلّغها الشرطة أن ابنها وقع في مشاجرة مع مجموعة من الشباب أثناء خروجهم من أحد المطاعم... وتكسر فكه... وهو الآن في مستشفى ابن سينا... بخير. فلا داعي للقدوم حالا، حالته لا تستحق عناية خاصة.
صعدت "حرة" إلى الطابق العلوي من منزلها وأخذت حمامها الثاني في اليوم... وفجأة شعرت بالسلام الشديد، وأرادت أن تكتب في مذكراتها... "وفاة عم زوجها أثناء نومه". انفجرت ضاحكة، وبقيت ساعتين أمام ورقتها البيضاء، ثم مسحت الدموع التي كانت تسيل على خديها.
لماذا تخلى زوجها عن عمه بعد طلاقهما وترك الحمل على عاتقها ؟
كانت تتأمل وتتمتع بحرية كان سقفها السماء... كان القمر شبه مكتمل هذه الليلة، وقد أخذ مكانه كما لو كان في مسرح...
في الطابق العلوي، كانت الأضواء مضاءة، داخل غرفة عمها الذي كان يعاني من سرطان المثانة. إنه يتألم بشدة. لم يعد قادرا على التحرك... "حرة" المرأة الجديرة ضحت بوقتها وخصصت أعمالها للسهر على صحة "العم إسماعيل" بمفردها دون مساعدة زوجها وابنها... لا تعرف لماذا تقوم بهذا التطوع هي التي ليس لها أي علاقة بالعم هذا؟ كل هذه الاضطرابات كانت ذريعة للزوج ليهرب ويعيش مع بنت صغيرة السن... و هكذا ترك حرة ممرضة وطاهية وخادمة حصريا لتعتني بعمه.
لماذا هي... هل كتب على وجهها ضحية... أم ناسكة... أم خاضعة؟ هي الغرببة التي لا قرابة لها بعم زوجها.
سمعت ضجيجا في الطابق العلوي، صعدت الدرج اثنين تلو الآخر، وفجأة توقفت أمام الباب المفتوح على غير عادته، وبدا أن عمها ينام بسلام. تتفحص صناديق وزجاجات الأدوية، فهي شبه فارغة.
عادت إلى ورشتها.
و في منتصف الليل، رجعت مرة أخرى إلى غرفة "العم إسماعيل"، فهو لم يغير مقعده. صرخت باسمه، بسبب صممه، فلا يجيب. لمست كتفه وهزته فلم يتحرك. ثم خرجت على الفور ونزلت الدرج. لقد بدا لها العم متيبسا، بارد؟ لم تكن متأكدة، لعله مات.
وكانت كل شكوكها موجهة نحو ابنها الذي لا يحب "إسماعيل" و يكن له حقد دفين و يتهمه بالمهبول صاحب ماساة امه. صحيح ان العم لم يكن لطيف. لهذا قد حاول الابن مرات عديدة تسميمه.
احمرت عيناها، نهضت، لاهثة، وسارت نحو غرفة ابنها قائلة له:
- لقد فعلتها مجددا. بالضبط؟
- فعلت ماذا مرة أخرى؟ ارجع عليها بشراسة.
- أعتقد أنه من الأفضل أن أتصل بالطبيب.
لقد ظهر طبيب العائلة بسرعة فائقة. فحص "العم إسماعيل" وأعلن عن غيبوبة ووفاة بسبب الإفراط في امتصاص الدواء. ويواصل الطبيب متمتما بين أسنانه: الله أعلم أنه أصبح عجوزا... هل هذا يعني أن العم كان من الممكن أن ينتحر؟ يبدو الأمر كذلك. لقد فعل كل شيء لحماية "حرة". مسح الآثار الموجودة على الزجاجات. ويأمر بتطهير غرفة إسماعيل تماما. ثم يدعو مديرو الجنازة لدفنه قريبا. ولم يأمر بتشريح الجثة...
وفي اليوم التالي دفن العم.
و بعد أسبوع واحد من الحادثة، تتم دعوة الأسرة من قبل كاتب العدل لمناقشة الميراث الذي تركه "العم إسماعيل".
كتبت كل الأموال إلى الزوج السابق ولم يذكر اسم "حرة" حتى ولو كان رمزيا على الوصية.
توترت الأعصاب وعظمت الشكوك. وكان اجتماع العائلة فرصة لشرح الصدور وتصفية المخزون.
- يا ترى، ما هو سبب الوفاة برأيك، سألها زوجها السابق. كنت أعلم أنك تتحملي العبء وحدك! يا له من عمل روتيني بالنسبة لك! أنا متأكد أن ابننا نظم هذا الانتحار... لكنه لا يعترف أبدا بما فعله...
- ماذا تعني؟ أجابت "حرة" عابسة. لماذا تتهم ابنك؟ هل جننت؟ أنت الذي لم يبذل جهدا في الاهتمام بعمه؟
غضبت "حرة"، وخرجت من غلافها السلمي الوديع ولكي تدعم ابنها، اطردت زوجها السابق من المنزل. قائلة دون تردد:
- لا يعد لك أي مكان هنا...
وبعد وفاة عمها الذي كان في ذلك الوقت يبلغ من العمر تسعين عاما، و طرد زوجها السابق ، استأنفت "حرة" شغفها بالنحت والكتابة.
كانت تردد لنفسها مواسية:
- حيث تكون الحرية يكون دفع الثمن....باهضا.
بقلمي عبد الفتاح الطياري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق