الاثنين، 26 فبراير 2024

" لا قطيعة مع التراث العربي الإسلامي "
لقد وقع جدال كبير بين الأدباء والمفكرين المعاصرين حول مصطلح التراث العربي الإسلامي فمنهم من يرى أنه مصطلح يسع لكل ما له علاقة بالإسلام بصفة عامة وبذلك ثم إدخال نصوص الوحي من القرآن والسنة النبوية ضمن دائرة التراث العربي الإسلامي.
وهذا القول يعتبر قول غير صائب.. لأنه جعل وحي الله وما أنتجه العقل المسلم في ميزان واحد ، فالتراث الاسلامي هو كل ما أنتجه العقل المسلم سواء كان صاحبه من أصل عربي أو غير عربي.. ليبقى شرط الاسلام هو المدخل الوحيد لتراث الإسلامي وهو كل ما أنتجه العقل المسلم في مختلف العلوم والمعارف في مختلف المجالات على مدى أربعة عشر قرناً التي مضت مثلا: في العلوم والمعارف الشرعية كعلم التفسير والتأويل والحديث والفقه وأصول الفقه...وبصفة عامة كل ما هو فكري وعلمي واجتماعي و عمراني واقتصادي وسياسي وحضاري وحربي..وأقصد بالحربي ( خطط الحرب والعز والدفاع والهجوم...) وأذكر مثال على سبيل التوضيح : أشار سلمان الفارسي على النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق في عزوة الخندق عندما حاصر الأحزاب المدينة وغير ذلك.
فالتراث الإسلامي بدايته مع نزول الوحي لكنه ينسب لإجتهادات العقل البشري المسلم في مختلف الأمور المتعلقة بالحياة التي كان يعيشها المسلمين ونذكر من ذلك استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة يوم الحديبية فقالت: يا رسول الله انحر هديك واحلق رأسك وإذا رآك الناس فعلت ذلك فعلوا ذلك، فوافق على رأيها وخرج إلى الناس ونحر الهدي وحلق رأسه. وهذا يدخل في دائرة الاجتهاد بالرأي وليس من الوحي في شيء.. كإشارة سلمان الفارسي على النبي صلى الله عليه بحفر الخندق حول المدينة كما ذكرت من قبل. 
فالتراث الإسلامي يشمل كل ما خلفه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف العلوم والمعارف التي سبق ذكرها... انطلاقاً من مفهوم الاستنباط من النص الشرعي وتنزيل على الواقع واجتهادات عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تبين هذه الحقيقة في كثير من الأمور التي يرى أنها تخدم مصالح العباد ( المصالح المرسلة) ولا تخالف النص الشرعي ولا تتعارض معه كما يتوهم البعض الذي يعتمد على استخدام النظر اللغوي الظاهر للنص أي: تفسير الظاهر من النص الذي يرى أن بينه وبين اجتهاد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه دلالة اختلاف وليس دلالة الموافقة.. ونذكر من هذه الاجتهادات : ولعلى أبرزها إشارته على الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما جمع القرآن الكريم في مصحف واحد وإيقاف حد السرقة في المجاعة وما فعله في غنام سواد العراق ومنع حذيفة بين اليمان بالزواج بكتابية و جعل ثلاثة طلقات في مجلس واحد ثلاثا وإيقاف الأعطية للمؤلفة قلوبهم وغير ذلك....
فالتراث الاسلامي إذا هو كل ما خلفه الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين والتابعين وعلماء المسلمين في مختلف المجالات والعلوم.. منذ بداية نزول الوحي إلى الآن.. وهو لا يزال مستمراً بدون إنقطاع لأن اجتهادات و إبداعات اليوم هي في حد ذاتها تراث الغد.. والتراث الإسلامي ليس في منزلة واحدة ومرتبة واحدة كما يتوهم البعض، بل هو درجات ومراتب ترجع بالدرجة الأولى إلى أصحاب هذه الأفكار والاجتهادات... بحيث تأتي معارف واجتهادات الصحابة وأفكارهم وآرائهم ..في المرتبة الأولى ثم التابعين ثم المثل بالمثل إلى الآن.. والصواب ما كان موافقا لنصوص الوحي غير متعارضاً معها ولا منتقداً لها.. والتراث الإسلامي يشمل كل ما هو مادي ولا مادي . 
ونحن بينا من قبل أن التراث الإسلامي هو كل ما أنتجه العقل المسلم بالفكر و بالقلم وباليد وغير ذلك.. في مختلف المجالات والمعارف من بداية نزول الوحي إلى الآن.... ونحن نعلم أن القرآن الكريم والسنة النبوية ليست من إنتاج العقل المسلم بل هي وحي أنزله الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل دلالة واضحة و قطعية أن القرآن هو كلام الله وهذا يثبت أنه ليس من التراث الاسلامي وقد أخطأ كثير من المفكرين العرب عندما تعاملوا مع القرآن الكريم بأنه تراث إسلامي... لهذا واجب على طلاب العلم والباحثين و المفكرين والمثقفين أن يصححوا مفاهمهم.. عندما يقومون بالتعامل معى التراث الاسلامي بحيث يجب عليهم الفصل بين الوحي المنزل وإنتاج العقل المسلم في مختلف أبواب العلم والمعرفة لكي يسهل الفهم وتتحقق الغاية ويتجنبوا الوقوع في دائرة الخلط بين المفاهم والمصطلحات العلمية.. ويستحضروا أن العقل مخلوق وأن منزل الوحي هو خالق العقل أن الوحي كلام الله المقدس أما العقل فهو عضو من أعضاء الإنسان الباطنية مثل القلب.. لهذا العقل يبقى مقيد ومحصور في دائرة المعارف المدركة وملموسة والمحسوسة...عاجر عن إدراك العلوم الغيبية التي انفراد الله عز وجل بها.. كما جاء في قوله تعالى ( وما أوتيتم من العلم إلا قليل ).
لهذا الباحث والمفكر ملزم بأن يعرف قدره بأنه هو وعقله وفكره.. مجرد مخلوق ولا يحدو حدو الزنادقة من قبله..فيحدث في الدين ما ليس فيه أو يريد أن يغير ما هو تابث بعقله المجرد ويعتبر القرآن الكريم من التوابث التابثة، فهو لا يقبل النقد والتشكيك والتكذيب في كل ما جاء فيه من الآيات.. ولا أن يطبق على نصوصه مناهج وضعية لا ليس لها صلة بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد.( مناهج غربية ).
فكثير من المفكرين العرب دعو في كتاباتهم وفي أقوالهم وفي ندواتهم... إلى القطيعة مع التراث الإسلامي واستبداله بالحداثة الغربية بكل ما جاء فيها... ومنهم من لم يكتفي بهذا القول بل اتخذ اتجاه منحرف أشد خطورة وانحرافا وتجرؤ .. وهو محاولته إزالت القدسية عن وحي الله الذي يعتبر القرآن الكريم هو أصل هذا الوحي واعتباره مثل الكتب الوضعية التاريخية... وهذا ما دعى إليه محمد أركون في مشروعه الشيطاني الذي سماه الاسلاميات التطبيقية.. وهو أنه اعتبر القران الكريم نص تاريخي كباقي النصوص التاريخية في محاولة منه خبيثة لنزع القديسة عنه وبذلك يتم تطبيق عليه مناهج النقد الغربية مع ما يتوافق مع المعاصرة والحداثة، لأنه هو أصلا متشبع بالفكر الغربي وتربى في الجامعات الغربية.. كما اعتبر أن قصص القرآن مجرد اساطير خرافية لا أساس لا من الصحة.. وهذا تكذيب صريح منه لما جاء في الوحي والوحي هو كلام الله والله عز وجل قال ﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ﴾ أي القرآن الكريم وهذا القول منه تجرؤ غير مسبوق على القرآن الكريم من رجل يدعي أنه مسلم ومؤمن والقاعدة الفقهية تقول " إذا انعدم الشرط إنعدم المشروط " والدليل قوله تعالى ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ﴾ والتكذيب والتشكيك وعدم التصديق التام بما أنزل الله ينفي صفة الإسلام والإيمان معا، لأن الإيمان بما أنزل الله هو شرط من شروط الإسلام و الإيمان.
وأقول: كلام الله مقدس وسيبقى دائماً وأبداً مقدس، وقدسيته هي أصل الدين الإسلامي وأساس الإيمان فلا يمكن الفصل بينهما في حال من الأحوال ، لأن الفصل بينهما هو ارتداد وكفر وشرك وإلحاد..
وفي الختام أقول: أن التراث الإسلامي إذا نظرنا فيه بتمعن وتدقيق نجد أنه يدع إلى العمل والاجتهاد والابتكار والإبداع... في كل ما ينفع المسلمين وأنه غني بمواده.. وفيه حلول لكثير من الأمور التي تعاني منها الأمة الإسلامية في هذا العصر .. لكن اقصاؤه وتهميش ما جاء فيه كان من بين الأسباب الرئيسية التي أوصلت الأمة العربية والإسلامية إلى هذا الوضع المشهود...
بقلم: الشاعر والكاتب والناقد والباحث في الشأن الديني : أحمد أحبيز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-( عيد ميلادي)- في الخامس من آب بعضُ طينٍ وماءٍ صارا أنا والى أنْ يختلفا سأبقى هنا... لم تكنْ صدفة أو لقاء عبثي بين عنصرين بل تحدٍّ وامتحان ...