السبت، 27 أبريل 2024

الجنة 
في مساحة مغلقة خانقة، كما هو الحال في المآسي اليونانية، نشعر بأن مصيرا مؤلما قد بدأ في الظهور ، شخصيات لا تنسى، ونعتقد أحيانا أنهم لم يولدوا من امرأة...
مأساة ريفية حقيقية، حيث يمتزج الحب والموت والغيرة والخيانة والطموحات والانتقام. أرواح متعددة وعذابات كثيرة وأرض واحدة ! " الجنة " ؟
هي المزرعة التي نشأ فيها سالم وسلمى. ترعرعت البنت على يد جدتها فاطمة. الحياة في الجنة تتبع إيقاع الزراعة وتربية الحيوانات. لا تستطع سلمى أن تتخيل الاضطرار إلى مغادرة دار النعيم يوما ما. تشعر بهذه الأرض مغروسة في عروقها وكأن دمها يغذي جذورها...
يتحول جسد سلمى وتكشف المرأة عن نفسها مع سالم. هذا القروي الشاب، الذي يحلم بالمدينة، و كان محاصرا بطموحه، و جنة سلمى تمثل جحيمه. 
يظن ان حبه سينافس شغف سلمى الخصوصي بأرضها، و ترجع اليه كاملة ؟ و يا خيبة المسعى، تحولت إلى امرأة مدمرة؟ لن يتماسك حبهما إلا من خلال الغضب الذي تكرسه لجنتها ؟ 
وفي عشية ممطرة قررت في جلسة مغلقة تذكرنا ببعض روايات خالد توفيق : ارتباطها الشرس والمرضي بأرضها، مصدر الحياة ولعنه في نفس الوقت.
بدأت تسرد حياتها و اجهشت بالبكاء.
هذا المكان يتطلب الحياة الكاملة لشاغليه، قالت بكل تردد. 
انا، جنتي هنا. هذه المزرعة المنعزلة ، انها نهاية طريقي، ملكها جدي وأبي ... واليوم هي أنا.
كنت طفلة اهرب من ضرب زوجة أبي الثانية إلى هذا المرفىء الوديع المسالم... بقيت مع الحيوانات، فهمت لغتهم واهوائهم، بعدما تلقيت تعليما جيدا في المدينة، وارتبطت بجدتي وبهذه التربة الصالحة وبالعمل في الحقول ازدانت حياتي و زينت ذاتي. 
توفي والدي في حادث سيارة، يتيمة، احتظنتني جدتي واشجار الغابة وطيورها... كانت البادية سلوتي وتسليتي... وبعد ذلك بوقت طويل، تعرفت عليك يا سالم، انك الرجل الوحيد في حياتي لا أحد قبلك ولا أحد بعدك. والآن بلغت عمر الحكمة والتعقل، واستسلمت لهذه الطبيعة المسالمة.
في هذه الحياة اما ان تكون اساسيا أو لم تكن. فاختر بيني وبين المدينة... أنا لا افارق هذه الديار...
تركته في ظلمة الليل وضوء فانوس يحرق افكاره... يا حيرتي قال ماذا ساختار؟
وفي الفجر الباكر، استيقظت سلمى على غياب طيرها الفار وعشعها فارغا، بارد لا ريش فيه ولا اشعار.
بقت نشطة وكان يساعدها راع في الأربعينيات من عمره، تناديه سالم في معظم الاحيان
بعد اثني عشر عاما من الغياب، يعود سالم إلى الدار...فتحت عينيها، لم تصدق... شبح من الجسم في نفس المكان الذي غادرها فيه سالم. مرت أمامه، لم تكلمه... لم تساله... واتجهت نحو المطبخ واحضرت له قهوته المعتادة وكان الزمن لم يفصل بينهما. لعلها علامة ربانية، عادت الجنة اثرها إلى الاخضرار.
استيقظت باكرا كعادتها ، صلت... نفخ فيها ذِكر للشاعرة المغربية * :
"للصمت أسوار عالية... وأبواب مغلقة بإحكام... إن مررنا بها يوما نحاول ألا نتسلق الأسوار... وألا نطرق الأبواب... مخافة ان نوقظ أوجاعا نائمة... يخبعها أصحابها هناك بإحكام... منذ زمن طويل..."
بقلمي عبدالفتاح الطياري 
تونس.
 * السيدة ليلى عبدلاوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-( عيد ميلادي)- في الخامس من آب بعضُ طينٍ وماءٍ صارا أنا والى أنْ يختلفا سأبقى هنا... لم تكنْ صدفة أو لقاء عبثي بين عنصرين بل تحدٍّ وامتحان ...