.. .. ( 37 ) ( مِن أغلى روح )
حين حل المساء واقترب الليل من الانتصاف عادت لي سعاد وهي تبتسم وكأنها قد لحقت بشيء هام :
_ عارفة إنك مرهقة جدا بس أنتِ وعدتيني تحكيلي كل حاجة
_ مادمتي عارفة إني مرهقة كتير يبقى لازم تتركيني أرتاح
_ بس أنا بقى جوايا فضول كبير إني أعرف حكايتك
_ بصي ياسعاد ، بعد ما أخرج من هنا بالسلامة تعالي زوريني ونتكلم براحتنا ، هكون ارتحت أكيد وقادرة أتكلم
وهكذا استطعت الإفلات مرة أخرى من فضول وإلحاح سعاد ، كنت بالفعل لا أستطيع أن أحكي شيئا ، وماذا سيفيد أي حكي ، لم يعد لدي استعداد للتقارب مرة أخرى مع الناس ، تقاربت معهم لأكثر من أربعين عام وهاهي النتيجة ، هنا أرقد وحدي وبجسدي كل هذه الحروق ، وإن كانت حروق روحي هي التي تؤلمني أكثر
في صباح اليوم التالي كانت فاطمة الممرضة هي اول من دخلت لغرفتي وأزاحت الستائر وهي تضحك :
_ اصحي ياست جميلة الفطار جاهز ، كفاية نوم اصحي
_ يعني كده سعاد روِّحت أخيرا
_ آه روحت ياحبيبتي وموصياني عليكي كتير ، النهارده كله كده بتاعي هنا
_ بتتعبوا فعلا ، بس شُغلانة فيها شيء كمان من المتعة
_ فين بس المتعة دي ياحبيبتي !
_ طبعا متعة ، كل يوم بتعيشي مع ظروف حد مختلف وبتقدري تساعديهم وتخففي عنهم
تركتني فاطمة ولم تسمع بقية كلامي وكأنها سمعت نداءا خفيا جعلها تترك المكان بسرعة ، ربما هناك حالات جديدة وصلت للمستشفى ، ولم يدهشني أن أحدا من جيراني لم يات لزيارتي هنا للاطمئنان علي حالتي ، لوكانت تيتة أم عمرو ماتزال بالحياة لكانت هنا معي منذ الأمس ، هي فقط التي كنت أتكلم معها منذ أن جئت لمطروح ، فلا أعنقد أن أحدا هنا يعرفني ليأت يزورني ، كيف يزورون جارة لاتتعامل معهم إلا بتبادل التحية وفقط ، حتى الرجل الشهم الذي انقذني وجاء بي للمستشفى عاملته بالأمس بمنتهى القسوة ، فانصرف وفي قرارة نفسه لن يعود مرة أخرى
مر اليوم بكل مافيه من إهمال فاطمة لي وعدم دخولها لغرفتي إلا وقت تقديم وجبة الطعام لي وكذلك الدواء وساعدتني مرة متضررة في دخولي للحمام ، فشعرت أن سعاد ملاك رحمة بالفعل رغم فضولها ، حتى الطبيب لم يمر عليَّ كما وعدني بالأمس ، وبالتالي فليس من المنتظر أن أغادر المستشفى في الغد ، وكانت هذه الليلة طويلة كما كان نهارها
بقيت في غرفتي هذه بالمستشفى عدة أيام لم أحاول معرفة عددها ، فالبقاء هنا وحدي لايختلف كثيرا عن وجودي بشقتي لوحدي ، حتى دق الباب ، لم يدق إلا قليلا خلال وجودي هنا ، كانت المفاجئة مذهلة بالفعل ، جاء الأستاذ فوزي من جديد مبتسما
_ مبروك ياست جميلة ، الطبيب كتب لك خروج
_ وحضرتك عرفت إزاي ؟!
_ الطبيب صديق لي وكنت على اتصال معه خلال هذه الفترة ، وكنت أتابع من خلاله حالتك وكذلك من الممرضة سعاد ، فهي كانت صديقة زوجتي قبل وفاتها من عدة سنوات ، كانت زوجتي تعرفت عليها هنا بالمستشفى في ظروف مرضها الأخير
بقيت أنظر إليه وأنا أسمع مايقوله وربما لم أتابعه جيدا ، حتى وجدته يفتح الباب ويغلقه لأنتبه
_ سافرتي بعيد أوي ومسمعتيش كلامي
_ لالا سمعته سمعته
_ هبعتلك سعاد تساعدك عشان ترجعي بيتك
_ بيتي ؟! زمانه بقى خرابة بعد الحريق
_ هنروح ونشوف يمكن لسه كويس
غادرت المستشفى معه في سيارته البسيطة والتي تؤدي الغرض ، عندما وصلنا للبيت ساعدني في الصعود ، الحمدلله شقتي ليست بدور مرتفع
_ إيه ده ياأستاذ فوزي!
_ دي شقتك ياست جميلة
_ وإزاي بقت كده ، مش كان فيها حريق ؟!
_ آه كان فيها حريق ولكني ظليت مع العمال لينتهوا من إصلاح ما أفسدته النيران ، أتمنى تعجبك
_ تعجبني إيه بقى ، الشقة بقت أجمل من الأول ، وكمان براويزي لسه بخير وفي نفس مكانها ، حاسة بس فيهم حاجة متغيرة
_ أخدتهم لمحل براويز بتعامل معاه خلاهم بحالة جيدة
نظرت مندهشة ومبتسمة ولم أجد كلاما بداخلي أستطع قوله للأستاذ فوزي هذا ،وانا بالمستشفى لم أشعر بمن الطبيب والممرضات بمثل ما اشعر به الآن ، وكأنه يريد أن يقول لي :
( لست وحدك ياجميلة )
يااااه ، معقول في الحياة رجل هكذا مثله ؟!، غادر شقتي في هدوء وهو ينظر لي مبتسما ولم ينطق بشيء ، لكني سمعت كل مابداخله وشعرت به ، وشعرت كيف قضى وقتا طويلا بشقتي منذ غادر غرفتي وقد ظننته غضب مني ، لم يشأ أن أعرف شيئا عما ينوي فعله ، فمن يغادر وهو بحالته هذه لايمكن أن يخطر ببالي لحظة واحدة أنه سيفعل شيئا ما لأجلي أبدا ، لكنه فعل ، وفعل أكتر مايمكن أن أستطيع فعله أنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق