تعود عن زيارة المرحوم أبيه كل يوم خميس ليسامره عما يحدث فوق الأرض. حينها ، باغته حادث قطار مريع ذهبت ضحيته امرأة حاملا... اكتشف الرجل، الذي نجا للتو بأعجوبة، طفلا ضائعا تحت الأنقاض. واقتنع بأنه تم إرساله إلى الأرض بعد موته. قرر تبنيه...
عندما يكبر، يحاول الصبي أن يعيش حياة طبيعية إلى جانب سكان القرية، التي يحبها ومع ذلك، فإن بقايا الحادث، تسبب تحولات مذهلة لدي من يقترب منه. يحاول مواجهة هؤلاء الأعداء الجدد. لم يفلح. فقد تطوٌف في البلاد باحثا عما تدعوه عواطفه. ضاقت به الدنيا... تغيرت القرية. وكل زنقها اغلقت. لم يتعود على مزاج الناس. يراهم اقزام بلا روح... لا يعرف بمن يثق... كل يكذب... تم عزله من كل الأفق... الحلقات تكونت قبله وبقي هو الدخيل الابدي. كل الامور اصبحت وقاحة مبهرجة، سخيفة...ليست الايام والليالي بظواهرها التى تؤلمه فما خفى منها فهو اقبح...
سار ببطيء في بساتين المقبرة ونام بين القبور في أشد القيظ فبان له في ضبابية المحدق أن قريته أفرغت من سكانها تدريجيا حتى أصبحت قرية أشباح ضائعة في نهاية الطريق من يتذكر الرجال والنساء الذين نشئوا هنا، والذين عاشوا هناك، والذين اختبروا نصيبهم من الأفراح والأحزان، والأشياء الصغيرة العادية التي تجعل الحياة حياة. من يتذكر الرجل الذي كان آخر من أغلق الباب، وحمل ما تبقى له من ممتلكات وغادر؟ ترك قريته إلى الأبد، وأدار ظهره لماضيه وتاريخه وأسلافه ليستقر في الجبل، في مكان أبعد قليلا. عشرة كيلومترات من محطات القطار المفجعة، على طريق ضيق يمر عبر الأدغال. أحجار جافة وبيضاء جدا لدرجة أنها تجعله يرمش ولا يمكنه النظر إليها. هل ترك الستائر مفتوحة؟ هل كلف نفسه عناء إغلاق القفل للمرة الأخيرة... منذ عام ألف وتسعمائة وستة وخمسين لم يعد للقرية وجود قانوني...وانضمت إلى قائمة القرى المهجورة.
وفجأة، شم عطر امرأة وشعر بملامس أصابع على جبهته، افتح عينيه مذعورا، فرأى شعر أمه المحجبة سابقا يتناثر على وجهه... فهم أن العهد تغير مع زمن رقوده. نظر إلى القرية فواجهته المئذنة...
بقلمي عبد الفتاح الطياري
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق