الثلاثاء، 2 يناير 2024

الحبُّ الضّائعُ..
   _  كانَ مِنَ الطّبيعيِّ أنْ يَتردّدَ ،  أو أنْ يَسخرَ من نفسِه ، إذا ما راودَته فكرةُ الإتّصالِ. فما معنى أنْ يتّصلَ بامرأةٍ، يعرفُ أنّها متزوّجةٌ ، وأنّ لها بيتَها، وحياتَها، وزوجَها ، وأولادَها؟
    _ صحيحٌ أنّها لم تُفارقْ خاطرَه، وكان يطردُها من ذاكرتِه، كلّما لاحتْ له بنضارتِها،  وأنوثتِها، وغُنجِها… وصحيحٌ أنّها كانتْ حبَّه الأوّلَ ،أيّامَ كان طالبًا في دارِ المعلّمين والمعلّماتِ، مالَ إليها، وأحبّها. وقد رآها آنذاكَ تختبىءُ في قلبِه وعقلِه، وترافقُه في كلّ حرَكةٍ من حركاتِه… وصحيحٌ أنّه لم يكنْ ليصارحَها بحبِّه خيفةً من أمرٍ ما، أهو الضّعفُ؟ أهو العمرُ؟ أم فارقُ الثّقافةِ،  والتّربيةِ ، والدّين؟ أو هي كلُّها جميعُها؟ 
    _ ما كان يعرفُه آنذاكَ، ويراهُ الآنَ، أنّها ملَكَتْ كيانَه، أحبَّ فيها الدّنيا، كما أحبَّ الدّراسةَ ، وكرهَ العطلةَ، حتى ولو كانتْ لنصفِ ساعةٍ فقط ؛ ويذكرُ أنّها إنْ ابتعدَتْ عنْه، فهو يراها في كلِّ مكانٍ، وإن اقترَبتْ منه يُسَرُّ،  ويَفرحُ ، ويَكْتفي معَها بالنّظرِ، وإظهارِ الإعجابِ ليس إلّا ..راقصَها يومًا في حفْلِ عيدِ المعلِّمِ، فأحسّ أنّه ملَك دُنياهُ، مع أنّه لم يكنْ راقصاً، ولم يكنِ الرّقصُ من معالمِ الحياةِ في قريتِه، ويَذكرُ أنّها راقصَتْه بانسجامٍ ، وقبولٍ ظاهرَين!. وما كان يُصدّقُ يومئذٍ أنّ يدَه تُمسكُ بيدِها، ويمناهُ تَستندُ على خصرِها، وقد ارتدَت للحفلةِ فستانًا ليلكيًّا ناعمًا، تفتّحَتْ منه على الصّدرِ كوىً متناسقةٌ ، كادتْ تُحدّثُ عن نفسِها بحديثِ الأحلامِ ، وبكلامِ العاشقين.
   _ ويَذكُرُ أنَّ إحداهُنّ، وهي رفيقتُه في الصَّفِّ، كانتْ تَغمِزُ له عنْها، بطريقةٍ تُشعرُهُ مِن خلالِها أنَّها عالمَةٌ بحالِهِ، ولأنَّه كان مُتدرِّجًا في الحبِّ، قريبٍا مِنَ الغَبَاءِ، لمْ يَكُنْ ليَدريَ أنَّها تسْتَلطِفُه ، وتُعجَبُ بهِ، وقدِ اسْتطاعَ من خلالِ صُحْبَتِها ،ورِفْقتِها،  وحُسْنِ الحديثِ معَه أنْ يَجذِبَها إلى مشاعرِ الحُبِّ، وليسَ فقطْ إلى ساحةِ الرِّفْقةِ والصُّحبةِ.
 

   _ ولكنْ.
    كمْ كانَ حزينًا، مُنقبضاً، يومَ ترَكَ دارَ المُعلِّمينَ مع نهايةِ العامِ الدِّراسيِّ وعادَ إِلى بَلدتِهِ، يَنتظرُ النّتيجةَ، ويَتحَسّرُ على الثَّلاثِ سنَواتٍ التي كانَ فيها طالباً… وكمْ كانَ لقاؤُه بِها صعْبًا وقاسيًا، يومَ التَقى بها مُصادَفَةً في أحدِ شوارعِ مدينةِ زحْلةَ، حيثُ أَلقى التّحيَّةَ بغُصَّةٍ عجيبةٍ، وبِفَأفَأةٍ  طارِئةٍ،  لخّصتٍ الضّعْفَ،  والحُبَّ ، والشَّوقَ في اللَّحظةِ نفسِها، راحَ بَعدَها كلٌّ في طريقِهِ ، ليَعودَ وقدْ حمَلَ في صدْرِهِ انْبعاثَ حُبٍّ ، ما كانَ  ليَتَحَمّلَ وطْأتَهُ..
   _  وتَمرُّ الأيّامُ، وتَكثُرُ الأحْلامُ عائدةً بهِ إلى زَمَنٍ مضَى، فيَرى نفسَهُ مَرَّةً في الصَّفِّ مع رفاقِهِ، وأُخْرى في الدُّكّانِ يَشتري لهَا ما تُحبُّهُ، وثالِثةً يَراها سائرةً مع صَبايا أُخرَياتٍ، فيعجَزُ  عنِ الكلامِ معَها.
   _ وبقيَ على هذهِ الحالِ سَنَواتٍ، إلى أنْ ساقتْهُ قدَماهُ إلى دائرةِ التّربيةِ ليسألَ عنْها أَحدَ معارفِهِ منَ المُوظَّفينَ فيُجيبُه: أنْ لا أحدَ يعرفُ هذا الإسمَ، ولو كانتْ معلّمةً ،  لكنْتُ بِحُكمِ وَظيفتي، قد عرَفْتُ عنْها شيئًا.
   _ وتَمرُّ السِّنونُ الطّوالُ، ويكونُ قد مضَى على غيابِها أربعونَ عامًا، ويَلتقي صاحبُنا بصديقِهِ القاضي، وكانَ قد تَعرّفَ على زوجِها وعَليْها مَعرِفَةَ عمَلٍ، ثم تَحوّلتْ إلى صداقةٍ، ويَطلبُ منْه أنْ يُعطيَه رقَمَ تلفونِ بيتهِما، ويُسجّلُ الرّقَمَ، ويُديرُه في يومٍ خلا البيتُ منْ كلِّ ساكنٍ فيه، فإذا بصوتٍ يُجيبُ: 
- هالّو! نعَم.
- صَباحُ الخيرِ.
- أهلًا مَنْ تُريدُ؟
- بيتُ الأستاذِ المحامي ...؟
- نعمْ.. ولكنْ للأسفِ،  لقد توفّاهُ اللهُ، مَنِ المُتكلّمُ؟
- أنا فلانٌ، جئتُ لألقيَ عليكُمُ التّحيَّةَ ،وأتعرّفَ على زوجِك، وها إنّي أُعزّيكِ ،وأطلبُ له الرّحمة وكانَ قد انتقلَ إلى رحابِ ربِّه، كما علمت،  منذُ سنتَين ونيِّفٍ..
- أنتَ فلانٌ؟ يا لَها مِن مُفاجَأةٍ !.
   واسْتمرَّ الحديثُ على الهاتفِ مُدّةَ ثلاثينَ دقيقةً، تبِعَهُ اتّفاقٌ على الزّيارةِ بعدَ أنْ حدَّدَتْ لهُ الزّمانَ، وأرشدَتْه إلى حيثُ المنزِلُ والسَّكنُ.
  _ وفي صباحِ يومِ خميسٍ، السّاعةَ الحاديةَ عشْرةَ كان عليهِ أنْ يَطرُقَ البابَ، وتَستقبلُهُ تلكَ المرأةُ الجميلةُ، الأرمَلةُ، العزْباءُ بكلِّ انشراحٍ وارتياحٍ، ويجلسُ معَها في غرفةِ الضُّيوفِ ، يَتأمّلُها، ويُحدّثُها، ويَسألٌها، وتُحدّثُهُ، وتَسألُه، وتقولُ لهُ: إنّكَ لم تتغيّرْ، أراكَ الآنَ كما كنْتَ منذُ أربعينَ عاما! فالإنسانُ عادةً، يَغزوهُ الشَّيبُ، وتَبينُ عليه عَلاماتُ التَّرهّلِ،  والكَبرِ في الوَجهِ، والبَطنِ، وأنتَ محافظٌ كما أراكَ، على رشاقتِكَ وشبابِكَ! فما الذي تفعلُه؟ علِّمنا.
   _  وأنتِ، يا عزيزتي، أراكِ، كما كنتِ بلونِكِ، وشعرِكِ، وعينَيْكِ!  ويَتلوّنُ الحديثُ، ويَعرفُ أنَّ زوجَها ماتَ بمرضٍ عُضالٍ، وأنَّها لم تُرزقْ بأولادٍ، وأنَّها ترَكتِ التّعليمَ، بعد زواجِها، وأنّ زوجَها كانَ يُحبُّها، ويَسعى دائمًا إلى إسعادِها، ويُقاطعُها صاحبُنا، ويقولُ لها: 
    أَتعْلمينَ؟
    قالتْ: ماذا؟
    نظرَ إليها بشيءٍ من شغَفِ المُحبِّ ، وتابَع: كنتُ في الدّارِ أُحِبُّكِ حُبًّا،لا أعتقد أنّ أحداً أحبَّهُ مثلي، فأجابَتْ بعدَ صمْتٍ غيرِ قليلٍ ، ولِمَ لمْ تَبُحْ لي بهذا الحُبّ؟
   _  قالتْ ذلكَ،   وقد  تسمّرَتْ عيناها  بشيءٍ ما في المكانِ... أمّا هو، فلمْ يعرفْ كيفَ يُجيبُ؟  وأحسَّ في قرارةِ  نفسِه  بما يُشبهُ النّدمَ ..
 وسيطرَتْ عليه حسْرةٌ ضَيَّقَتْ صدرَهُ ،وتَداعَتْ إلى ذهنِه صورُ مُلاحقتِها بعينَينِ ما عرَفتْ ،  عندَ النّظرِ إليها ،وهْنًا  أو تَعَبًا أو غُصّةً من  تَهيُّبٍ، يسابقُه أملٌ  بأنْ تكونَ شريكتَه في مشاعرِ الإعجابِ والمَحبَّةِ . كانْ عليهِ أنْ يَسترجع ، من سنواتِ دارِ المعلّمينَ الثّلاثِ ، سنتَين كاملتينِ بما حمَلَتا من ألَمٍ وحبٍّ، قبلَ أن تبدأَ السَّنواتُ التّالياتُ،  وما حمَلَتْه أيّامُها من متاعبِ الشّوقِ والحسرةِ . وما إنْ أفاقَ من  ذُهولِهِ ، حتّى أشارَ إلى صفحةٍ في كتابٍ كان كتبَه ، ونشرَه، وهو بعنوانِ "مسافرٌ إلى الماضي " ذكرَ فيه أنَه أَحبّها، وتحسَّرَ عليها، وقدَّم لها نَسخةً منْه، بعدَ أنْ قرأَ القصيدةَ إيّاها على مسمعِها.  بعدَ ذلك ،  شكرَ لها حُسْن استقبالِها ،وغادَرَ المكانَ.
                                     عبدالله سكريّة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

-( عيد ميلادي)- في الخامس من آب بعضُ طينٍ وماءٍ صارا أنا والى أنْ يختلفا سأبقى هنا... لم تكنْ صدفة أو لقاء عبثي بين عنصرين بل تحدٍّ وامتحان ...